هل هي نهاية عصر الرجل الأبيض؟ أعرف أن شعوراً بالالتباس يسيطر على العقول في هذه اللحظة، فالعالم يقف متفرجاً أمام إحدى شاشات التلفزيون المقسمة إلى مشاهد عديدة تطالعنا من خلالها صور التفجيرات الانتحارية في العراق، وآخر الأنباء السيئة عن السوق المالية، أو أخبار أخرى تتعلق بالعقاقير العجيبة التي تعالج الأمراض الأكثر فتكاً. والحقيقة أن هذه التطورات المتلاحقة والمستجدات المتتالية تفتقد لأي معنى واضح، أو تماسك داخلي يساعد على التحليل، إذ تبدو عجلة التاريخ ماضية في طريقها دون الانتباه لأحد. وفي عالم معولم ما إن يغفل المرء، أو يلتفت إلى شيء آخر، ربما قراءة مجلة أو ما شابه، حتى تنفجر قنبلة ما في مكان في هذا الكون. وهكذا تكثر الأصوات ويتعالى الصخب من حولنا دون أن يحيل إلى شيء بعينه بعدما فقدت العلامات مدلولاتها وأصبحت تتقاذفها التأويلات. لكن أمام هذا التدفق الهائل لكل شيء بفعل العولمة، تولدت ردود أفعال تأخذ أحياناً طابعاً عنيفاً في بحثها عن هوية قومية، أو دينية. ويبدو أن هذه المراوحة بين التدفق الممتد والقبلية الضيقة هو ما يميز عالمنا المعاصر بحدوده الآيلة للزوال. لكن وفي خضم هذه الحركة الدؤوبة التي يشهدها العالم هناك منعطفات فاصلة، أو تغيرات جوهرية. والنقلة النوعية التي نلمسها اليوم هي نهاية عصر الرجل الأبيض التي لاحظتها أول مرة عندما توقفت في مطار دبي منتصف الليل. فبينما كانت الأنباء تصل من الولايات المتحدة عن تعثر الاقتصاد وانحسار موجهة الإنفاق الأكبر في العالم، كنت أرقب المناطق الجديدة والغنية الصاعدة، وكان واضحاً أن الآسيويين والعرب خصوصاً استأنفوا الإنفاق منذ ساعات الصباح الأولى. وفي ذلك الوقت أدركت أن لحظة الغرب على وشك الانتهاء بعدما انتقلت الثروة والقوة إلى مناطق أخرى. ومع أن الجرعة الاشتراكية التي حقنها "بين بيرنانك" رئيس الاحتياطي الفيدرالي في الاقتصاد الأميركي قد تساعد على تفادى الأسوأ، إلا أنها لا تستطيع تغيير الاتجاه وقلب المسار. وعندما وصلت إلى هونج كونج وجدت أن الحديث السائد هو عن مصاعب الاقتصاد الأميركي وتأثير ذلك على النمو الاقتصادي في الصين. وكان السؤال هو هل سيتراجع النمو من 11% إلى 8%، ثم ماذا عن الهند هل ستكتفي بنسبة نمو لا تتجاوز 8%؟ واللافت أن الغرب أدعى بأن يناقش معدلات النمو الاقتصادي التي لا يمكن أبدا مقارنتها بمثيلاتها في الصين والهند. وفي هونج كونج أيضاً استمعت كثيراً إلى عبارة "استحالة فصل الاقتصاد"، لا سيما في عالم مترابط قد تتضرر فيه الاقتصاديات الآسيوية القائمة على التصدير، لكن حتى هذا التخوف لم يعد مطروحاً في ظل توسع الأسواق المحلية في الصين والهند. وبمجموع سكان يشكل ثلث البشرية، يمكن للإحصاءات الآسيوية أن تنطوي على أرقام فلكية تثير الدهشة مثل وجود 450 مليون هاتف نقال في الصين، أو انتقال 300 مليون شخص من الريف إلى المدن في الهند خلال العشرين سنة المقبلة. ويُقدر الخبراء أن تصبح الهند بحلول 2030 ثالث أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة والصين. لكن الأهم في هذا التحول ليس ما تشير إليه الأرقام، بل ذلك الذي يحصل في الأذهان والعقول. فأول ما يدهشك عند زيارة آسيا هو الشعور العالي بالثقة في النفس والرغبة المتوقدة في تحقيق النجاح، حيث تحول قادة الشركات في آسيا إلى نجوم موسيقى، وباتت الثقافة السائدة تمجد التعليم والإنجاز. وفي ذلك كله يبدو أن الصين مصممة على هزيمة أميركا والتقدم عليها. وقد عبر عن هذا التحول الهائل الذي تعرفه آسيا "كلود سمادجا"، خبير استراتيجي عالمي مرموق، بقوله "إن ما نلمسه هو انفجار في الحركة وبروز أحلام جديدة. إنها نهاية الهيمنة الغربية والرجل الأبيض". ومن يزور هونج كونج يلاحظ بجلاء هذا التغير من خلال قطارها السريع وعالي الكفاءة الذي تصبح معه نيويورك وكأنها جزء من العالم الثالث. وعندما التقيت بـ"فريدريك ما" وزير التجارة في هونج كونج وجدته شخصاً بالغ التهذيب واللباقة، لكنه أيضاً شديد الذكاء يبعث الحديث معه على شعور بالراحة والألفة. وقد بدا لي أن هونج كونج هي البلد الوحيد في العالم الذي يستطيع فيه الناس استباق موضوع تفكيرك قبل أن تبوح به. وبعد أن استفاض وزير التجارة في شرح خطط تطوير البنية التحتية بما تشمله من جسور جديدة وقطارات فائقة السرعة تحول إلى عتاب خفيف لأميركا قائلاً "إني قلق بعض الشيء على الاقتصاد الأميركي في هذه المرحلة"، مضيفاً "عندما كنت في زيارة إلى الولايات المتحدة خلال شهر نوفمبر الماضي سألت صديقة في أحد البنوك عن الوضع الاقتصادي وقالت (إن الأزمة في "وول ستريت" قد تمتد إلى الشارع العام). والواقع أن كلامه صحيح لأن الأزمة بدأت فعلاً في الانتقال إلى الشارع بعدما فقد العديد من المواطنين منازلهم وأصبحوا بين ليلة وضحاها من دون سيولة كافية لتسديد الديون، ثم والأهم من ذلك انهيار تلك الصورة اللامعة التي ترجع إلى الثلاثينيات من القرن الماضي عن مصرف "بير ستيرنز" بعدما استفاق الأميركيون صباحاً فوجدوه قد اختفى. ويبدو أن كل شيء إلى زوال، فبعد فترة قصيرة من الهيمنة الغربية أعقبت سيطرة الصين والهند على الاقتصاد العالمي في القرن السابع عشر ها هو البندول يميل إليهما مجددا بسرعة لم يتصورها الغرب. فنحن نشهد عصر نهاية الرجل الأبيض، لكن حتى قبل أن تتسارع خطوات الأفول، ستمتد النهاية إلى المرأة البيضاء أيضا. ــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"